مكابح النفس

إنّ مَن يتأمل حال البشر ويطيل في ذلك، سيكتشف ببساطة عَجلةَ الناسِ في أمرهم وسرعةَ سعيهم في كافة جوانبِ حياتهم، وقدّ بينَ ذلك تعالى في قولهِ “وكَان الإنسَانُ عجولًا” ولها تأويلاتٌ كثيرةٌ تدل على شدة سخطِ الإنسان على حالهِ وعدمَ صبرهِ.

إن هذه العجلة الدائمة والتي بالطبع أنا أحدُ ضحاياها يراها بعضنا ميزةً تصلُ إلى التفاخر، وتُخلط النوايا هُنا حتى تجد الرجل يُخبرك بأنّ شخصيتهُ تميل إلى الإنجاز السريع سواءً تكلّم على قيادةِ سيارتهِ مثلًا أو تجارتهُ أو صلاتهُ حتى! في نوعٍ من الكبرياء الذي تنزف له القيمُ.

من الذين أدركوا خطر الانفلات الروحي وانجرارها إلى هاوية السرعة في صغائرِ أمورها أولئك الذين اعتادوا على التأمل وجعلوه علاجًا لكثيرٍ من مُعضلاتهم النفسية. إذ يُؤمن هؤلاءِ أن الانعزال الجسدي عن هَذا العالم والتوقف الكامل عن الحركة لساعاتٍ طويلة يزرع في روح الإنسان الكثير من التأنّي والرصانة.

لعلماءِ النفس ذات الفكرة بخصوصِ السجون، ولسنا هُنا في صددِ الحديثِ عمّا يحدثُ خلف أسوارها، ولكنّ مقصد القول أنّ حبس روحِ إنسانٍ لأيامٍ داخل زنازينَ مُنفردةٍ لهي رحلةُ عذابٍ شاقةٍ لنفسٍ اعتادت الجموحَ والإفراط حتى التجاوُزِ والأذى.

حسنًا، لنتفق إذا أنّ هٌناكَ فائدةٌ وتأثيرٌ إيجابيٌ إن عرّضنا أنفسنا لشيءٍ من الهدوء والسكينة التي يمكن أن تُشذّب وتعيد تقويم أنفسنا وتتحكمَ في انفعالاتنا حول أيًا كان ما يحدثُ حولنا.

ذاتَ يومٍ؛ كُنتُ أصلّي بأحدِ الأقارب، وكان كثيرَ الحركة أثناءَ الصلاةِ، تارةً يشمّر أكمامهُ، تارةً يرّتب لحيتهُ وتارةً يمسحُ شعرهُ إلى أن انتهت صلاتنا. كان الأمرُ واضحًا لحدِ الإزعاجِ وهُنا أعدتُ النظر في صلاتي. كثيرٌ ما أن أكبّر تكبيرة الإحرامِ إلا وبدأ الشيطان في تضخيم مستقبلاتِ الإحساس خلال جَسدي، فلحظةً أجدني أشعرُ بحكةٍ في خدّي ولحظةً أشعرُ بأن ملابسي تحتاجُ بعضَ التعديل إلى أن أجدَ نفسي قد تركتُ خشوعي وانشغلتُ في جسدي ومظهري.

لا أجدُ غرابةً فيما يحدثُ، فهذا المريدُ اللعينُ توّعد أن يُفرّق بين العبدِ وربهِ، وأتساءَلُ الآن: كم مرةً نجح في النيّلِ منّا؟

إن أحدَ دروسِ الصلاة، هي التدريب اليومي على كبحِ النفس وكسرِ سطوةِ جموحها، فأنتَ تقف بين يديّ اللهِ ثابتًا خاشعًا، بل وكانَ من السُنّة أن تطول الصلاة وعلّ من فوائد هذه الإطالة زيادة الوقت التي تقضيه أرواحنا في سكينةٍ ووقارٍ.

إن الدرس والتدريب يبدأن حين نتأمل معًا السلفَ الصالحَ والتابعين ممن رضى اللهُ عليهم وأرضاهم، فلنا في صلاة “ابن الزبير” درسًا قيمًا واختبارً لا يجب على أحدٍ تركه، إذ قيل أنّه إذا صلّى كان أشبهَ بغصنِ الشجرةٍ في الثباتِ.

وذكرت كُتب السنّة الكثيرَ من الصحابة والتابعين الآخرين كابن الجريح وعطاء وغيرهم الكثيرون ممّن ورثوا صلاة أبا بكرٍ والذي ورثها عن النبي مُحمدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم. وهُنا نسأل أنفسنا، أينَ صلاتنا من صلاةِ هؤلاءِ؟

إن هذا الاختبار لن يكونَ سهلًا في البداية، فمحاولة الوقوف أمامَ اللهِ بثباتٍ دونَ حركةٍ ستقابلها رغبةٌ غامرةٌ من شياطينِ الأرضِ وكأنها اجتمعت على هزّك وإحادتَك عن طريقٍ السواءِ.

إنّ لنا موعظةً في صلاتنا وهديةً من اللهِ تُمنحُ خمسَ مراتٍ يوميًا، الخشوع الذي يُكسي الصلاةَ فتُخمد نيران أنفسنا وتتهادى ويُصبح للحكمةِ والهدوء دورًا أكبر وتمثيلًا أعظم كلّما حكمنا أو قررنا. فلا عجب أن يكونَ خشوعنا في صلاتنا الكابح النفسي الأمثل.

في الختامِ؛ إن كَان هُناكَ نصيحةٌ يمكن أن أذكّر بها نفسي وإياكم، هو أن نستثمر صلاتنا، أن نبدأ في الوقوف ضد رغباتنا، أن تكونَ وقفتنا في دقائق الصلاة وقفةً تليق بأن نكونَ عبيدًا للهِ دون أن نلتفت إلى رغباتٍ تُبعدنا عنهُ فنكون نحن الأخسرين.

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑